الآن وقد خرج الجيش السوري من لبنان …أستطيع أن أتحدث … سيتساءل القارئ ولماذا سكت قبلا ؟؟؟؟
لماذا صمتت طوال الفترة العصيبة الماضية …
لماذا سكتت عند صدور القرار 1559 ( وكنت قد أدركت أن هذا القرار هو تسونامي منطقتنا وكنت أود أن نلتزم به مباشرة رغم ظلمه )
سكتت عندما نزل السيد جنبلاط قافزاً من حافلة سائرة برأيه إلى الهاوية …و هرول راكضاً محاولا امتطاء حافلة تسير في الاتجاه المعاكس … ونجح .. وكنت قد تمنيت أن نوقف هرولته نحو الطرف الآخر على الأقل حتى لحظة خروجنا .
سكتت عندما اغتالوا الشهيد رفيق الحريري … وكنت قد تمنيت أن نحميه بدمائنا ..على الأقل حتى نخرج من لبنان بشرف .
سكتت عندما استثمر اغتيال الحريري ذلك الاستثمار المخزي وكان بودي أن نعرف كيف نوقف هذا النوع من الابتزاز.
وكان من حولي دائما يتعجبون من صمتي على ما يدور حولي وكان جميعهم يتعجبون كيف أن لساني الذي لا يكف عادة عن الحركة قد سكن عن موضوع لبنان ..
بعضهم اعتبرني من أولئك الذين ينتظرون جلاء الأمور كي أحكم أو أقرر أو أحلل مثلما يفعل بعض كبار السياسيين اللذين يخافون التسرع في إطلاق الأحكام فيظهر جليا خطأهم …
لكن صدقوني كان صمتي مبررا … فانا كنت أعرف في قرار نفسي أننا قتلنا الحريري … بالتأكيد لم نقتله بيدنا لا فعلا ولا قولا ولا حتى تخطيطا … بل قتلناه عندما تركنا يد الغدر تطاله وهو وكل لبنان كان في حمايتنا …
قتلناه …وعدة مرات … قتلناه ..عندما تركناه يرفض البقاء بالحكم …. وقتلناه عندما انحاز إلى المعارضة … ولم نحمه في وقت كنا نتشدق أن لبنان آمن بفضلنا .. وبفضل تضحياتنا .. ووقت يسلط علينا سيف اسمه القرار ألأممي 1559 .
ويحضرني مشهد لن أنساه ما حييت حينما وجه لي أحد أصدقائي … جملة فيها أقذع السباب للأستاذ وليد جنبلاط متمنيا له القتل …. فأجبته غاضبا وضاحكا من عبثية الفكرة … اسكت ..علينا الآن حماية وليد جنبلاط كما لم نحمي أحد من قبل … علينا حمايته من البعوض الذي يلف حوله ….علينا حمايته مثلما تحمي أي أم ، وليدها الجنبلاطي الحديث .
نعم في قرار نفسي شعرت أننا مسئولين عن الكثير الكثير من الإذلال أو ربما التعب أو ربما الضنك الذي لحق باللبنانيين.
ولكني وبعد خروجنا …سأتحدث لا بل سأنهمر تحدثا ..
كنت دائما أتابع الأخبار … ويوميا إلى أن اغتالوا الحريري رحمه الله عندها توقفت عن المشاهدة ( رغم أننا صرنا كسوريين نتصدر النشرات يوميا ) . . . وعن القراءة رغم أننا صرنا نحتل المساحة الأكبر في الصحف العربية ، ومساحة شبه يومية في الصحف الأجنبية .. ومن تعليقات آلاف المحللين السياسيين الذين نبتوا ونما عددهم فجأة .
أصبحت الأخبار تضنيني .. بل وتؤلمني …. وأرجو هنا أن لا يفهمني القارئ خطأ …فأنا أؤكد للجميع أنه ليس خجلا .. بل ألمف … ملحف مزعجف مستمرْ …
كنت أتألم .. ولكنني داخليا أجد للبنانيين بعض العذر !!!!
فنحن كسوريين نتفهم حاجة أي كان إلى الديمقراطية … وخاصة أننا حرمنا منها طوال حياتنا ( أنا أربعيني ) .
ونحن كسوريين نفهم حاجة أي كان إلى إيقاف دولة المخابرات …وخاصة أننا نعيش تحت أسوأ وأطول قانون للطوارئ فرض على سوريا ( في العصر الحديث ) …
نحن كسوريين نتفهم حاجة أي كان للتعبير للهتاف للصراخ … وخاصة أننا كنا نساق وبالملايين ، لنردد كالببغاوات هتافات معظمنا لا يعرف معناها .
صدقوني كنت أحسد أحيانا أخوتنا اللبنانيين حين أرى تظاهرهم … طريقة تعبيرهم … أقول في نفسي تجمع خرج ومن جميع الطوائف … ليقول كلمته دون ضغط … يقوده حس جماعي مشترك ( وطني غير وطني لا يهم ) .
فرحت تجمع وطني لا طائفي … أخيرا … هاهي الطائفية تلاشت … فالمسيحي والمسلم كلهم يصلي عند قبر الحريري صلاته الخاصة …
ورغم شعوري ذاك ….. فقد ضايقني ….. هتافات
توت توت توت …سوريا عم بتموت ….
بدنا نحكي الحقيقة سورية ما منطيقا …. ( وكأن اللبنانيين كانوا يكذبون )
وهييييه يالله ….سوريا اطلعي بره ….
ومقتل عشرات العمال السوريين الفقراء …
ومضايقة الآلاف منهم ….
وهذا ما لم استطع تفهمه مطلقا …. رغم أني والله العظيم ورغم ألمي حاولت .
شعرت بالمرارة …
ورغما عني عدت بالذاكرة إلى عام 1975 وحتى 1982
تذكرت حينما احتضنت سوريا مئات الآلاف من اللبنانيين الذين فروا إلى سورية هربا من ويلات الحرب …
تذكرت كيف استقبلناهم .. وكيف قاسمناهم لقمتنا ومساكننا وموادنا الغذائية ( التي هي بالأصل شحيحة ) .
تذكرت كيف عمل معظمهم في شوارع حلب واللاذقية ودمشق كسائقي تاكسي وبسياراتهم ذات النمر اللبنانية ( و بدون أي ترخيص ) .
تذكرت كيف أن جدتي كانت توقف السيارة اللبنانية وتقول اللبناني يجب أن يعيش … ويجب أن يعيل أولاده …
وتذكرت بعدها أننا لم نكسر أي جرة … بعد أن غادروا ..
بل على العكس … ظل أولادنا هناك …وظللنا نزود لبنان بما نستطيع تقديمه إليه …
ظللنا نتقاسم الكهرباء …. رغم أنها كانت تنقطع عندنا ( التقنين ) ….
ظللنا نتقاسم كل شيء …في السراء والضراء …..
الآن وقد انسحب الجيش السوري من لبنان …..
انسحب الهم الثقيل وكسرتم …. وراءه جرة .
أوصي اللبنانيين أن لا يتقاتلوا … أن ينظروا إلى الأمام … أن يرموا الأحقاد …..
أوصيهم أن يمار سوا حريتهم دون المساس بحرية الآخرين . ..
أوصيهم أن يلغوا روح الطائفية التي تفوح من جميع أركانهم ….
أوصيهم أن لا يخرجوا جزاري الطائفية من السجون …
أوصيهم أن لا يعيدوا أمراء الحرب المنفيين …
أوصيهم بمحاكمة المجرمين …جميع المجرمين …
الآن وقد انسحب السوريين من أراضيهم …أستطيع أن أؤكد أننا سنظل مثلما أبدا كنا …. أخوة دم .
سنظل أبدا نفتح لهم قلوبنا … وبيوتنا وشوارعنا ومصانعنا وأجهزتنا الإعلامية لماذا …لأننا أخوة دم .
سنظل نفتح لكم أسواقنا من الألبسة الرخيصة والمواد الرخيصة والسلع الرخيصة …لماذا …لأننا أخوة دم
سنظل دائما ندرس فقرائهم في جامعاتنا مجانا ….لماذا …لأننا أخوة دم.
سنظل دائما نرسل أغنيائنا للسياحة للتسوق للطبابة للعلم ….. لأننا أخوة دم .
سنظل دائما نستقبلهم على الهوية الشخصية ….لماذا …لأننا أخوة دم
سنظل دائما مستعدين لتقديم دمائنا ودماء شهدائنا كي ينعموا بالأمن …لماذا …لأننا أخوة دم
سنظل دائما مستعدين لتزويدهم بما ينقصكم … ولو على حسابنا … ماء كهرباء نفط …. كل ما يطلبونه ….لماذا …لأننا أخوة دم
سنظل دائما مستعدين لأن نكون أبدا …أخوة دم .
وبالتأكيد … سنظل نعشق فيروز … ووديع ..وزياد . …
ولأجل أن نضمن أن لبنان سيعيش … لابد لسوريا ..أن تظل تعيش …
ولذلك أدعو أخوتي .. إلى الهتاف …
ريش ريش ريش … لبنان لابد يعيش
توت توت توت .. سوريا ماح تموت