الموسيقى التي أبدعتها الشعوب المختلفة لا تخلو من نقاط تشابه، و نقاط التشابه هذه لا تلفت انتباهنا لأنها ليست علامات مميزة (بكسر الياء المشددة) إذ أنت لا تعرف الناس مما يشتركون فيه مع غيرهم و إنما تعرفهم مما يميزهم من سواهم.
و لا بد من تدقيق في هذه النقطة: خلافا لأفلاطون لا يوجد “مثل” للإنسان نقيس عليه أفراد هذا النوع العيانيين، فلا يوجد غير هؤلاء الأفراد المتعينون، و مع ذلك فمن التجربة نتعود على المشترك و على تمييز الخصال المتفردة ضمن هذا العموم فالأوروبي متعود على رؤية لون محدد للجلد و حجم معين للإنسان إلى أخره، و باختصار: ما يمكن أن يكون عليه “الإنسان”، و تبدأ الدهشة حين يصطدم ابن مجتمع معين، هذا المجتمع مثلا بخواص غريبة لم يرها من قبل: الجلد الأسود مثلا في بداية عهد الاستعمار أو قبله.
و الموسيقى تخضع لهذه الخواص العامة للإدراك فثمة خواص عامة للموسيقى العربية تحدد لك مثلا “ما يمكن أن تكون عليه الموسيقى العربية” و حين تظهر خاصية لم توجد من قبل يكتشف ابن المجتمع ذلك. قلت: “الموسيقى العربية” مصطلح استخدمته لتسهيل الشرح و إلا توجب المزيد من التدقيق إذ أن الموسيقى الأندلسية التي هي عربية و الموسيقى السودانية التي هي عربية أيضا تختلفان كل الاختلاف عن الموسيقى المشرقية (مصر و بلاد الشام، بعض بلاد المغرب العربي، الخليج و العراق، التي غالبا ما نعنيها حين نقول “الموسيقى العربية” هل إدراك التميز و عدم التميز شعوري أم غير شعوري؟ عد إلى مفهومك ل: “الحصان” مثلا و قل لي: هل تذكر متى تعلمت أن تميز الحصان من غيره؟ أكثر من ذلك: هل تستطيع أن تعد لي الآن: ما الذي يميز الحصان. جرب و سترى أن الأمر ليس بهذه السهولة فهو: حيوان (ليس تمييزا كافيا) ذو أذنين قصيرتين (ليس كافيا أيضا) و حجم معين و أكمل السلسلة لتستنتج أن جواب التلميذ في النكتة: ألم ترى في حياتك قطة يا أستاذ؟ هو الجواب الذي يخطر على البال. نحن نميز إذن استنادا إلى ذاكرة بصرية خرساء لا يسهل تحويلها إلى كلام، هذا في الحصان أما في الموسيقى فنميز استنادا إلى ذاكرة سمعية لا نستطيع التعبير عنها بسهولة، و يتولى علم الموسيقى تحديد مكونات الموسيقى و تسميتها و وصف بنيتها. غير أننا لا نحتاج إلى الموسيقى النظرية لمعرفة أن هذه الموسيقى سودانية و ليست من بلاد الشام كما لا نحتاج إلى كتاب علم الحيوان لتمييز الخروف عن العنزة. و نتابع فنقول إن المرء لا يحتاج إلى معرفة قواعد الموسيقى ليتذوقها، غير أنك تحتاج إلى معرفة هذه القواعد لتصف بناءها و لتستطيع تحويلها إلى رموز بحيث يعزفها حتى الذي لم يسمعها سابقا. و بالاستناد إلى هذه الرموز تستطيع أن تبرهن لشخص لا يتذوق الموسيقى مثلا أن هذه سودانية و ليست شامية (و إلا كيف ستبرهن له! فكر في هذا السؤال!). وظيفة الترميز إذن هي وصف الأشياء و إعادة بناءها عند اللزوم و البرهان على هذا البناء عند التشكيك فيه. تأمل فيما فعل الخليل رحمه الله في العروض. فالشاعر قبل الخليل كان ينظم شعرا موزونا و لكنه لم يكن يستطيع أن يبرهن على أن شعره موزون إن قال له أي واحد: هذا الشعر ليس على الوزن (مثل أي واحد الآن بعد الخليل لم يتعلم العروض) حتى لو أن ذوقه قال له: هذا موزون. عود إلى موضوع “التذوق و الفهم”: التذوق قد يعني الاستمتاع و قد يعني مجرد إدراك منظومة من الموجودات (البصرية أو السمعية إلى آخره) باستمتاع أو بغير استمتاع. لنسم هذه المنظومة “منظومة الموجودات المحسوسة”. و الفهم يخص بحصر المعنى تعامل الإنسان مع اللغة أي استخراج المدلولات من الألفاظ. و قد يعني معرفة الأسباب للنتائج الموجودة. هل سمعت مرة الموسيقى الصينية؟ لقد سمعتها أنا فقلت: أنا غير قادر على تذوق هذه الموسيقى. و بالاستعانة بمعلوماتي في علم الموسيقى (التي هي ليست كثيرة و لكنها مفيدة لأنها معرفة بألف باء الموسيقى) “فهمت” أن السبب هو بناء هذه الموسيقى على منظومة “غير ممكنة” من الارتباطات بين الأبعاد الموسيقية. غير ممكنة في الموسيقى العربية. كأنك ترى إنسانا شعره أخضر و طوله عشرون سنتيمترا أو ثلاثة أمتار. لا بد لك لكي تفهم نصا لغويا فهما جيدا من خبرة معقدة جدا بألفاظ اللغة و معانيها الممكنة و ارتباطات هذه الألفاظ الممكنة و معانيها الأصلية و المجازية إلى آخره. و لا بد لك لكي تتذوق الموسيقى بمعنيي التذوق المذكورين آنفا من خبرة معقدة أيضا مع هذه الموسيقى بإيقاعاتها الممكنة و ارتباطات أبعاد الأنغام المكونة الممكنة (المقامات).الجمل الموسيقية الممكنة. معنى التذوق الأول الذي هو الاستمتاع غير ممكن لأن شرط الاستمتاع في رأيي هو رؤية نظام معين لما أسميته منظومة الموجودات المحسوسة و لا يمكن رؤية النظام الممكن بدون خبرة طويلة بأشكال توزع العناصر في هذه المنظومة و بالعنصر نفسها ( أنت تعرف مثلا أن حرف القاف لا يوجد في اللغة الألمانية فأنت تنكر وجود أي كلمة ألمانية مزعومة تحتوي على هذا الحرف لأن عندك خبرة بالعناصر و توزعاتها، و ثمة كلمات غير ممكنة تستبعدها لمعرفتك بالقواعد إلى آخره) كيف ستتمتع بالموسيقى الغربية و أنت تحس أنها مجرد أصوات اعتباطية لا رابط يجمعها؟ الاستمتاع بالموسيقى شرطه الأول إدراك “المنظومة الممكنة” للأنغام ثم التذوق للجمال و هو الزيادة على الإدراك. فأنت لا تعرف جمال المرأة إن كنت لا تعرف كيف تكون النساء عموما كشرط أول!
بقلم : محمد محمود شاويش
كاتب فلسطيني – من كتابه “نحو ثقافة تأصيلية”- دار نينوى والدار العربية للعلوم
أهلا بك استاذ محمد : ويسرني وجودك في موقعي ويسرني أنك زرته .
تم التصحيح وشكرا لكم للتنويه … وشكر أكبر للمقال أعلاه الذي ثبتته في موقعي لاعجابي به …. ولادراكي لأهميته .
المقال هو بقلم الكاتب الفلسطيني محمد محمود شاويش وليس محمود شاويش كما ذكر سهواً
وهو منشور في كتابه “نحو ثقافة تأصيلية”- دار نينوى والدار العربية للعلوم (ناشرون)