ولد بارتوك بمدينة ( ناجيستز نتميكاس ) المجرية، والتي تنتمي الآن إلى رومانيا وتسمى ” سينيكولاو” في 25 مارس عام 1881..
ينحدر عن أسرة موسيقية أظهرت مواهب مبكرة في كل من عزف البيانو والتأليف الموسيقي،
كان الحفل الجماهيري الأول في حياته الموسيقية عام 1892، أي وهو في الحادية عشرة من عمره.
كان ذلك بمدينة مجرية صغيرة، ولكنه ظهر كعازف بيانو متفوق ومؤلف على السواء.. فقد شهد هذا الحفل الأول عملا ناجحا من مآثره باسم الدانوب، يصف فيه نهر الدانوب خلال مروره بدول متعددة، وعندما بلغ الثالثة عشرة من عمره انتقل إلى مدينة بوتزوني التي تسمى الآن براتسلافا عاصمة إقليم سلوفاكيا بجمهورية تشيكوسلوفيا.. وهناك درس مع قائد الأوركسترا ” لازاوا إركل Erkel ” ابن المؤلف المجري الشهير (اركل) حتى عام 1899.. وبعدها انتقل إلى العاصمة المجرية بودابست في التاسعة عشرة من عمره.. وقد اشتهر بالعاصمة كعازف موسيقي. تأخرت شهرته حتى عام 1902، عندما تبلورت شخصيته الموسيقية بعد أن استوعب أساليب الألماني العظيم ريتشارد شتراوس، وبعد أن اهتز كيانه بالتيار القومي الموسيقي الجارف في المجر، فكتب قصيدا كبيرا باسم كوسوت في عام 1903، متناولا فيه الأحداث السياسية والاجتماعية ببلاده المستقلة المتحررة.. فعزفت على الفور وتلقفتها الجماهير بأعظم تقدير في كل من بودابست ومانشستر في عام 1904.
إن الموسيقى المجرية الشعبية الشائعة، تختلف هناك كثيرا عن موسيقى الريف المجري وألحان الفلاحين البسطاء الاصلاء.. ويعتبر عام 1905، حاسما بالنسبة لحياة بارتوك، لأنه في هذا العام بدأ يكرس جهودا متفانية في دراسة وتناول موسيقى الفلاحين المجريين، ولقد تعرف على زميل المؤلف المجري الشهير ” زولتان كوادي ” الذي كانت له نفس الاهتمامات، ونسقا معا جهودهما من أجل موسيقى الوطن القومية، ومن أجل اثراء الموسيقى المجرية العالية بنغمة جديدة من ألحان الفلاحين الأصيلة الخصبة.
وفي عام 1906 تم لهما نشر 20 أغنية مجرية شعبية بمصاحبة شيقة من البيانو.. وقد دفع هذا التيار ببارتوك إلى مدرسة التيارات المشابهة في العالم، فدرس موسيقى التأثيري الفرنسي الشهير ديبوسي بجدية وعمق، وخاصة في مجال إثراء الموسيقى الفرنسية بنغمة غريبة من الشرق الأقصى.
وفي عام 1907 عين بارتوك استاذا للبيانو بالأكاديمية الملكية للموسيقى ببودابست.. وقام في نفس الوقت بدراسة الموسيقى الشعبية المجرية، وموسيقات البلاد المجاورة وخاصة رومانيا وسلوفاكيا.. وهي البلاد التي تتمتع بثراء في الفن الشعبي رغم أقليتها.. كما أنها ترتبط ببلاده (المجر) بحدود كانت مفتوحة متحركة تضم أراضي أصبحت الآن داخل الحدود الرومانية والسلوفاكية.. أما عن مؤلفاته الموسيقية في تلك الحقبة من الزمن، فإنها لم تكن شائعة ولا محببة بين جماهير عريضة، فقد تفرغ للدراسة والكتابة، وتم طبع كتابه الأول عن الأغاني الشعبية الرومانية ببوخارست عام 1913.
وفي نفس هذا العام، بدأ تيار الشهرة يزحف عليه، فقد نجح عمله الرائع في لفت الأنظار من جديد إليه وإعادة تقديم أعماله السابقة التي لم تنل حظها من أضواء الشهرة، وتعاقدت معه أكبر دار للنشر الموسيقي بفينا يونيفرسال Universal Edition على نشر جميع مؤلفاته وتوزيعها في كافة بقاع العالم، وكلفته حكومة المجر بكتابة متتالية موسيقية في الاحتفال بمرور خمسين عاما على توحيد بلدتي بودا وبست التي أصبحت العاصمة بودابست وقد تناقلتها أوركسترات العالم بمجرد عزفها في هذا الاحتفال الدولي الشهير عام 1923، وظهرت له كتب تشتمل على دراسات عن الموسيقى الشعبية المجرية ووسائل تناولها في المؤلفات العالمية وطرق معالجتها موسيقيا باللغات المجرية والألمانية والإنجليزية، وخلال هذه الفترة واصل عمله كعازف كبير للبيانو في جولات عالمية ناجحة، وكان هذا مجالا لتقديم العديد من المؤلفات التي كتبها للبيانو خصيصا لهذه الحفلات المتعاقبة، وفي عام 1934، استقال من منصبه كأستاذ للبيانو، وعين في وظيفة هامة بأكاديمية العلوم المجرية، التي أشرف على طبع الأعداد المهولة من الأغاني والموسيقى المجرية التي أشرف بنفسه على جمعها وتدوينها وتحقيقها كثروة قومية نادرة، وفي الفترة المتبقية من حياته، لم يكتب أي موسيقى إلا بناء على طلبات خاصة وتكليف من الدولة والهيئات الموسيقية العالمية.
وفي عام 1939، عند نشوب الحرب العالمية الثانية، كان بارتوك قد فكر في ترك المجر والهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية. وبالفعل اختتم جولته الموسيقية الثانية بالولايات المتحدة في ربيع عام 1940 وبعدها مكث هناك كمهاجر مع زوجته وابنه. ولكنه لم يجد السعادة في مجتمعه الجديد، فقد كانت صحته في تدهور، وفرص العمل الموسيقي البراق محدودة. وفي عام 1941 عمل بتكليف من جامعة كولومبيا لإعداد مجلة عن الموسيقى الكرواتية السرية الشعبية. ولم يكتب الموسيقى حتى جاءه تكليف خاص من مؤسسة كوسيفتسكي Kossevizky الموسيقية لكتابة كونشرتو للأوركسترا في عام 1943 وهو العمل الرائع التاريخي الفريد في هذا المجال .. وتبعه بسوناته للفيولينة المنفردة بدون مصاحبة. وعند وفاته اكتشفت مسودة كاملة لكونشرتو للفيولا والأوركسترا..
وكاستعراض لأعماله، نجد أن مؤلفه الأول كان رابسوديه للبيانو والأوركسترا،
و “أغنية البجعة” كانت تعتبر كنشرتو آخر للبيانو، إلى جانب ثلاثة أعمال كبرى للبيانو والأوركسترا، وسوناته للبيانو، وأخرى لآلتي بيانو مع الإيقاع، وأيضا مجموعة من 400 عمل صغير للبيانو، خصص الكثير منها للأغراض التعليمية وتدريب العازفين، ومنها مجموعة ميكروكزموس Microkosmos الشهيرة. وأعظم أعماله من ناحية القيمة العلمية الموسيقية هي ست رباعيات وترية كتبها وهو في كامل نضجه الموسيقي.. ولقد ساعده على اتقانها دراسته المتعمقة للآلات الوترية، فقد درس الفيولينة مع أعظم أساتذة معاصرين متخصصين منهم “منهوين”. كما أنه كتب للفيولينة 2 كونشرتو، 2 رابسودي، 4 سوناته، 44 ثنائية صغيرة مبنية على الألحان الشعبية المجرية.. أما أعماله للمسرح فقد كانت كلها في الثلاثينيات وهي تعكس موهبة نادرة وثقافة مسرحية متعمقة.. وأهم أعماله الأوركسترالية لم تتضمن سيمفونيات، ولكن تضمنت الكونشرتو للأوركسترا – وهو عمل أوركسترالي كبير يستخدم فيه آلات الأوركسترا بطريقة الكونشرتو، وهو لمسة جديدة حديثة الأسلوب عمق بها الفكر الموسيقي الأوروبي والحس الشعبي الهنغاري – كما أن عمله الرائع “موسيقى للوتريات والايقاع والسيلستا” يعتبر لونا فريدا في التراث الموسيقي الإنساني بوجه عام.. وتضمنت مؤلفاته أيضا عملا كوراليا كبيرا، ومجموعات متنوعة من الأغاني.. إلا أن ألحانه الغنائية تعتبر أقل أعماله أهمية..
وعند تناولنا لأسلوبه في الكتابة الموسيقية نجد أن أعماله المبكرة قد تأثرت بموسيقى ريتشارد شتراوس.. وهي تعكس التيار الهارموني الذي ميز الرومنتيكية المتأخرة.. وابتداء من 1904، نجد أن أسلوبه تحول من التأثر بشتراوس إلى مواطنه القومي الشهير “فرانزليست”، ويبدو ذلك جليا في “الرابسودي” حيث التحولات اللحنية metamorphosen التي استعملها بارتوك طوال حياته كجانب رئيسي في أسلوبه.
ومنذ اندماجه في الموسيقى الشعبية المجرية وموسيقى الفلاحين المجريين عام 1906، نجده دائم الاستعمال للألحان الشعبية بإمكانياته التي تتسم بالبساطة وبتكرار القطاعات اللحنية الصغيرة بطريقة دائمة التنوع.. كما أن موسيقاه شعبية الطابع تميزت بالهارمونية المقامية Modal Harmony التي ترتبط بالمقامات الجميلة السائدة في موسيقى الفلاحين والتي تتشابه في كثير من الأمثلة مع مقامات الموسيقى العربية.. تميزت قفلاته اللحنية بمسافات هابطة مميزة هي الرابعة التامة المتبوعة بالثانية الكبيرة.. وهي المسافات اللحنية التي تربط بين ألحانه والأساليب الألمانية الحديثة.. فمن خلال الرابعات التامة تفجرت أساليب حديثة أهمها الاثني عشرية – أي الموسيقى التي تعتمد على مجموعات من اثني عشر صوتا كبديل للمقام الموسيقي – وقد تضمنت المقامات الشعبية المجرية السلم الخماسي في بعض أشكاله التي تتشابه مع المقامات الإفريقية.. هذا، فضلا عن الإيقاعات ذات الضغوط غير المتوقعة، والتي تثري الموسيقى المجرية بحياة متوقدة بالعاطفة والحركة..
ومن الجدير بالذكر أن بارتوك استعمل بكثرة الإزدواج المقامي Bi – Classicism وطرق أساليب كانت شديدة التطور في عصره وهي الدوديكافونية أو الاثني عشرية إلا أنه لم يستمر فيها، وهذا دليل على عدم إيمانه بها، وبعدم ملاءمتها لمعالجة الألحان الشعبية المجرية، أما عام 1916، فإنه يشهد استعمال بارتوك للمذهب الكلاسيكي الجديد Neo – Classicism بحثا عن وضوح اللحن الشعبي وعدم تشويهه بالمعالجات المتطرفة والشديدة التطور..
كان بارتوك يرقب الحياة الموسيقية من حوله عن كثب، ويتجاوب بمنتهى السرعة مع كل جديد في أساليب عمالقة التأليف المعاصرين. ولكنه كان يطبق منها ما يتناسب فقط مع التيار القومي المجري المبني على الألحان الشعبية أو على الألحان ذات الطابع الشعبي.. فلم يسمح لنفسه بتطبيق علوم موسيقية هارمونية تطمس روح بلاده وتحول قوميته إلى عالمية مجردة تتشابه في أسلوبها وطابعها مع كافة أساليب العالم في كل بقعة من الأرض.. ولكنه أراد من أسلوبه العلمي جعل موسيقى المجر القومية عالمية.. لا أن يجعل العالمية هي التي تسيطر على ملامح روح بلاده.. ولقد تأثر بأسلوب سترافنسكي – الروسي الأبيض الذي عاش بأميركا – ويظهر تأثره بموسيقى باليهات “بتروشكا” و “طقوس الربيع” لسترافنسكي واضحا في موسيقى الباليه التي كتبها في المجر فيما بين 1914، و 1919.. وهي “الأميرة الخشبية” و “البرتقالة العجيبة”. ولقد كان استخدامه للأسلوب “الكلاسيكي الجديد”، بمثابة معارضة للمذهب التعبيري الذي كان سائدا في ألمانيا والنمسا وإيطاليا في ذلك الوقت.. وكبديل للأسلوب السريالي الذي لم يؤمن به ولا بمطابقته لموسيقى الشعوب، فإنه اتجه إلى أسلوب “ليست” الذي يسمى بالتحولات.. ويتناول تطويرا ودراسة وتحويرا للأنماط اللحنية المميزة..
استخدم بارتوك الأساليب الحديثة المختلفة ولكن بتحوير يجعلها ملائمة لاستخداماته اللحنية والايقاعية والمقامية.. وكان عندما يطبق نظريات التعدد المقامي التي تسمى بوليتونال Polytonal فإنه كان يسميها بوليمودال Polymodal لأنه استعملها في مقامات متعددة في نفس الوقت بدلا من سلالم تقليدية كبيرة وصغيرة..
وعند تقييمنا لبارتوك كمؤلف موسيقي معاصر، فإننا نضعه في مصاف “سترافنسكي” و “شونبرج”، رغم أنه لم يكن له دور مؤثر في مسار التطور الموسيقي العالمي بالدرجة التي أثر بها كل من زميليه، ويرجع ذلك إلى ظروف قومية بحتة. فبلاده، المجر غنية بتراثها الشعبي البكر والذي لم يكن قد بدأ النهل منه بعد.. وهي أيضا بلاد تقع في محور الحركة القومية الموسيقية لظروفها السياسية والاجتماعية.. فبلاده، المجر، كانت تحت حكم عائلة “الهابسبورج” حتى نهاية الحرب العالمية الأولى.. وكان الذوق الموسيقي هناك محصورا في موسيقى “برامز” و “فاجنر”.. وفيما بين عامي 1920 و 1945 فقدت المجر ما يزيد على نصف مساحة أراضيها. وهذا أدى إلى ظروف اقتصادية قاسية مما خلق ظروفا شديدة الصعوبة للحياة الموسيقية ودفع بالكثيرين من العباقرة الموسيقيين المجريين إلى ترك البلاد، بحثا عن فرص العمل ومنهم قادة الأوركسترا: أناتول دوراتي، اويجين اورماندي، وجورج شولتي. وبالرغم من ذلك، فقد صارع كل من “زولتان كوداي” و “بيلا بارتوك” من أجل خلق نوع جديد من الموسيقى القومية المجرية العالمية المتطورة.
كان تناول بارتوك للموسيقى المجرية مختلفا بشكل جوهري عن معالجة زميله ومعاصره زولتان كوداي.. فقد كان بارتوك شديد التفتح، وينهل من منابع الموسيقى الشعبية لبلاد أخرى أهمها رومانيا، من أجل المزيد من الإلهام والإثراء والتجربة والمقارنة .. وبالإضافة إلى ذلك، فإن استخداماته للألحان المجرية الشعبية كان بهدف رئيسي هو الاهتداء إلى الصيغة العلمية العالمية المناسبة لطرح هذه الموسيقى أمام العالم وفي تيارات التراث الموسيقي الإنساني كفن موسيقي قومي متطور فكريا وحضاريا ووجدانيا في نفس الوقت.. ولذلك، فهو الموسيقي المجري الأول الذي أخرج موسيقى المجر إلى مجال الإهتمام العالمي..
لعل الميراث الحضاري للمجر بالإضافة إلى النشأة الأولى لبارتوك قد عملا على غرس العقيدة القومية الراسخة في قلبه.. فهو ابن لمزارع يرتبط بالأرض والريف والفلاحين.. وأمه كانت موسيقية تعمل مدرسة، وقد لقنته دروسه الأولى في الموسيقى.. وأتيحت له الفرصة في وقت مبكر من عمره للتفريق بين الموسيقى الريفية المجرية والموسيقى الشعبية المجرية التي تمتزج كثيرا بموسيقى الغجر المستوطنين بكثرة في بقاع المجر، والذين تختلف موسيقاهم جوهريا عن الموسيقى المجرية بالرغم من أن الكثيرين – حتى من الموسيقيين المجريين – قد وقعوا في التباس كبير بين موسيقى الغجر وموسيقى المجر. وعلى رأس هؤلاء كان الموسيقي العظيم “فرانزليست” الذي وجد معارضة شديدة من مواطنيه عندما كتب عن موسيقى بلاده إنها مرتبطة بموسيقى الغجر.. ولكن بارتوك، كان من القلائل الذين تعمقوا في جذور موسيقاهم الشعبية وفصلوها وحققوها ونقحوها.. لتحديد الملامح القومية الصحيحة لموسيقى المجر المتطورة.
مات وهو في الرابعة والستين من عمره بمدينة نيويورك في 26سبتمبر عام 1945.