من عالم مسحور … اتى الارض جني جميل … طفل بجناحين لايكفان عن الرفرفة فيتحرك الهواء حول الجناحين ناشرا عبقا جميلا يملأ الدنيا ريحا طيبة .
مثله كمثل عصفور لايملك قدمين ليحط بهما على ارض الحياة … فيظل محلقا مرفرفا دائم الطيران حتى تنتهي الحياة … هكذا كان منير مراد .
منير ..ملحن مختلف .. نوع آخر من المبدعين … لون آخر … طعم آخر ….. ولا مثيل .
عجينة لشخص مختلف مميز ثري بالجمال .
انسان قل نظراؤه .. دائم الحركة والنشاط … رشيق وكأنه يرقص طائرا على الأرض ولا يلمسها …
وكأنه أحد تلك المحركات الدائمة الحركة التي شغلت علماء الحركة وظلوا يبحثون عنها حتى ادركوا ان من المستحيل وجود محرك دائم الحركة ذاتي الطاقة ولكنهم نسوا ان اشخاصا يولدون في هذه الدنيا … قد يكونوا محركات دائمة الحركة حتى بعد ان يموتوا .
منير مراد كان أحد تلك المحركات … لم يهدا في حياته … ولا حتى بعد مماته … فما لحنه لازال وبعد ان صعدت روحه الرائعة الى السماء لازال منير يحرك المشاعر والاجساد .. وينشر الجمال …
منير كان شاملا متعدد المواهب ذكاء حاد وموهبة لاتنضب …
شخصية محببة وخلق جميل وتواصل مع جميع البشر وتواضع وخفر
رجل متوهج … كل ذرة فيه تنضح بالحركة ….
باختصار … كان منير ضحك ولعب وجد وحب وعيش مستمر .. وانفتاح على الحياة …
لم يحس يوما بالسوداوية … بل شعر بالحزن … ولكن الحزن لم يوقفه ,,….
ولد موريس زكي مراد وهو الاسم الحقيقي لمنير مراد في 13 – 1 – 1922 بمدينة القاهرة لعائلة فنية من اعرق العائلات الفنية التي اسست للفن في الربع الأول من القرن العشرين فأبوه الملحن المبدع زكي مراد وأخته ليلى مراد التي كانت أحد ألمع نجوم الغناء في ثلاثينات واربعينات القرن العشرين …. وملكة الأغنية السينمائية والاذاعية بدون منازع أنذاك …. فنشأ في جو موسيقي فني هذا الجو الفني ( الموسيقي السينمائي ) كان ارضا خصبة لنمو موهبة موريس فعشق الفن وشربه بل وتنفسه تنفسا ….
في هذا المنزل الذي لم يكن يخلو يوما من عمالقة اللحن جلس الطفل منير يراقب أولئك الكباربانتباه وانبهار وهم يلقنون أخته ليلى الالحان الجميلة ويغنون ويتسامرون ويطربون ويطربون… فجلس وشاهد الكبير زكريا أحمد وهو يلقن ليلى الأدوار الصعبة والتطريب وراقب عبدالوهاب وهو يغني ويعلم ليلى اغاني الافلام والسنباطي وغيرهم …. فتعلم وكان منزله هو مدرسته الأولى في عالم الفن …..
الطفل الذكي كان يتلقن الموسيقا والفن منهم ويراقبهم بانتباه فكأنه تلقى الموسيقا على أكبر الأساتذة.
درس منير مراد في المدرسة الفرنسية … كحال معظم اليهود المصريين من ابناء العائلات اليهودية الميسورة وتدرج فيها حتى حصل على الشهادة الثانوية … ومن ثم انتسب الى الكلية الفرنسية .. ولكن عالم السينما والأضواء التي انخرطت فيه شقيقته ليلى وزوجها الفنان الكبيرأنور وجدي سحره وجعله يترك الكلية عام 1939 ليعمل في المجال السينمائي كعامل كلاكيت بسيط و أشركه أنور وجدي في عدة أدوار منها تقليد الفنانين فلفت الانظار اليه بحيوته وقبوله الأمر الذي دفعه للتدرج في الأعمال فعمل كمساعد للمخرج توجو مزراحي و الكبير كمالسليم وأنور وجدي واحمد بدرخان ونيازي مصطفى وعز الدين ذو الفقار …. حتى لعب دور البطولة نهارك سعيد الذي نجح نجاحا ملحوظا جعله محط الأنظار ….هذه التجربة الكبيرة الغنية مع مخرجين كبار من مدارس فنية مختلفة ساعدته في بناء خبرته التي ازدادت نتيجة احتكاكه بالفنانين من ممثلين وموسيقين ومطربين وطبعا أصحاب المهن السينمائية الأخرى.
تخلى منير عن التمثيل و قرر منير العمل كملحن وبدأ يدرس ماذا يريد ان يفعل و كان لحبه واطلاعه الاعمال السينمائية العالمية وخاصة موسيقى هوليود دور كبير في تكوين شخصيته المختلفة المميزة وانا اعتقد شخصيا انه قرر ان يكون متميزا ومختلفا وخاصة انه كان يرىأمامه نموذجا مرعبا للتميز والاختلاف وهو الموسيقار محمد فوزي … فقرر ان يكون مختلفا وصاحب مدرسة مختلفة هي بالاصل جزء من شخصيته المتمردة الواثبة المتحركة ابدا .
ولعل صداقته بالموسيقار الكبير أحمد صدقي وايمان هذا الأخير بقدرات وموهبة منير التلحينية وتكلمه عنه وحض المطربين والمطربات على التعامل مع منير وأخذ الالحان منه … كانت أحد أسباب تهافت المطربين عليه بالاضافة الى نجاحاته وانتشار مرددي أغانيه السهلةالبسيطة الجميلة …. هي التي أرست أقدامه ورسخته كملحن متميز .
عمل على البلوز والجاز وكانت تلك الموسيقى الاهم في امريكا ولكنه لاقى صعوبة في اقناع المطربين ومنتجي السينما بها … الى ان وجد الدجاجة التي ستكون السبب المباشر لتسويقه كملحن مميز له وزنه في عالم الأنغام . وجد شادية الفتاة الصغيرة كثيرة الحركة والقبول وخفة الدم … فكان ان ركز منير عليها وخاصة ان مكتشفها محمد فوزي كان مقتنعا بها وبالطبع فان نظرة الاستاذ فوزي كان لها قيمتها الكبيرة على الاقل عنده وهو الذي يعرف تمام المعرفة من هو فوزي وماذا تمثل نظرته الفنية .
لحن لشادية أغنية واحد اتنين هذه الأغنية فاجئت الناس واالمشتغلين بالفن فقد انتشرت كالنار في الهشيم حتى اصبح الجميع يرددها … وحتى الملحنين بدأو في تقليدها ومحاولة تلحين ما يشابهها … فتوافد منتجي الافلام عليه طالبين منه تلحين أغاني أفلامهم ….
وهكذا استمرت تجربته الغنية مع شادية فساهم في شهرتها ولحن لها معظم أغانيها الشهيرة التي اضحت فيما بعد من كلاسيكيات الغناء العربي في تلك الفترة . وقد بلغت أغانيه لشادية أكثر من 70 اغنية ودويتو أكثرها مع عبد الحليم حافظ وكارم محمود واسماعيل ياسين وشكوكو .
وهذه بعض الأغاني التي لحنها لشادية : ان راح منك يا عين – الو الو – سوق على مهلك – شبك حبيبي – ما اقدرش احب إتنين- يا سارق من عيني النوم- يا دبلة الخطوبة – لمـَّا راح الصبر منـُّه
لفت هذا الملحن أنظار الصاروخ الصاعد آنذاك الفنان عبد الحليم حافظ فطلب منه ألحانا وكان ان لحن لعبد الحليم اجمل اغانيه … ومنها أشهر أغنية للناجحين لحنت حتى الآن وهي أغنية وحياة قلبي وافراحه …. و أول مره تحب يا قلبي التي لاقت نجاحا منقطع النظير ونظرةبسيطة للأغاني التالية تعطيك فكرة عما قدم هذا الرائع وماذا أضاف لتجربة عبد الحليم ورصيده : أغنية بكره وبعده – أغنية بحلم بيك – حاجة غريبة – دقوا الشماسي – ضحك ولعب – مشغول وحياتك وغيرها …
ولعل رشاقة وخفة دم وحركة منير مراد حتى في التلحين ساعدته ليكتسح مجال الأغنية السينمائية الرومانسية
استمعوا جيدا الى دويتو تعالي لقلك التي اداها عبد الحليم وشادية في احد افلامهما معا لتعرفوا مدى عبقرية وجمال ورشاقة ألحان منير مراد .
او استمعوا جيدا الى دويتو حاجة غريبة لنفس المطربين السابقين لتعرفوا كيف كيف مزج منير بين الرشاقة والرومانسية والرهافة والجملة الطربية الخفيفة .
غرق منير في بحر موسيقا الفيلم فكان لابد من ان يتجه نحو الاستعراض فوضع اشهر الاستعراضات مثل استعراض الطلبة ووضع اشهر موسيقات الرقص تلك الايام فتعامل مع راقصات من الدرجة الأولى مثل تحية كاريوكا وسامية جمال ونعيمة عاكف …. وبذلك كرس نفسه كرائد من رواد هذا المجال .
تعامل منير مع كثير من المطربات والمطربين ولعل أهمهم بالاضافة الى شادية وعبد الحليم كانت أخته ليلى والمطرب الرائع محمد قنديل الذي كانت مفاجأة لي أن اعرف بالصدفة أنه لحن له عدة أغان منها زنوبة واغنية زعلوا الاحباب .
ومن الطرائف الجميلة في حياة منير أن المطرب الكبيرمحمد عبد المطلب وبعد ان لفت انتباهه جمال وشهرة الحان منير طلب من هذا الاخير تلحين أغان له قائلا : ألا تريد ان تدخل التاريخ يا منيرفرد عليه منير تحت أمرك يا بو نور ( وهو الاسم الذي كان الفنانين يحبون ان ينادوا به محمد عبد المطلب ) .
فقال له عبد المطلب لكي تدخل التاريخ عليك بالتلحين لعبد المطلب فضحك منير قائلا انا سألحن لك لحنا غير تقليدي ويضيف لعبد المطلب شيئا جديدا … فأعطاه عبد المطلب كلمات أغنية شعبية اسمها الليل مطلعها :
الليل موال العشاق … وجناح الشوق والأشواق
فلحنها منير على ايقاع الجيرك وبعد أن أسمعه اللحن رفض عبد المطلب غناءها قائلا : منير مراد عايزني أغني خواجاتي .وكان ان اعطاها منير لمطربة جديدة أنذاك شريفة فاضل بطلب من المطرب محمد قنديل الذي كان يتبنى هذه المطربة فنجحت الأغنية نجاحا كبيرا حرم عبد المطلب منه .
كان منير عاشقا للفن وللجو الفني فقد كان يردد دائما “أنا بني آدم معجون بالفن، أحب أرقص وأمثل وأغني وأعمل مزيكا، أما النجاح ده من عند ربنا”
اختفى منير عن المجال الفني لفترة طويلة مثله مثل اخته ليلى ولعل يهوديته ومشاعر الغضب الذي شعر به الشعب المصري من اليهود بشكل عام وخاصة بعد نكسة 1967 كان السبب الرئيسي في انزواء هذا الكبير .
أشهر منير مراد إسلامه وتزوج من الفنانة المعتزلة حاليا سهير البابلي.
توفي منير صغيرا كحال معظم المبدعين في 17 – 10 – 1981 عن عمر يناهز التاسعة والخمسين . حيث عاش حياة لاتكاد تخلو من الحركة والمغامرة .
منير كان عبقريا في التلحين وماكرا في الاقتباس .ز يمكنكم التأكد بالرجوع الى لحن فارس احلامي لشادية