ولد “فيلهلم ريتشارد فاجنر” بمدينة ليبزج بألمانيا في 22 مايو/ أيار سنة 1813، وتوفي بعد ذلك بسبعين عاما.. بمدينة البندقية بإيطاليا في 13 فبراير/ شباط سنة 1883.. بعد حياة شديدة الخصوبة غمرت البشرية بتراث موسيقي أدبي فلسفي متكامل.. وبتجربة فريدة معجزة في مجال تجسيد “وحدة الفنون”..
ففي شخصيته النادرة تتبلور عناصر التعبير الموسيقي المسرحي التي أدت إليها الحركة الرومنتيكية بألمانيا.. كما احتوت عبقريته التطور الموسيقي الذي خلفه بيتهوفن، فضلا عن الأساطير والفلسفة الجرمانية التي تطابقت مع فكره وأحاسيسه
وعكست على موسيقاه عناصر القوة والعاطفة الحادة المتطرفة. دارت رسالته الموسيقية حول ارتباط الفنون وتكاملها.. في وحدة حقيقية متجسدة.. وحدة فكر وحركة وتعبير.. … “الكلمة ليست سوى وسيلة لنقل الأفكار والاتصال بالناس.. إلا أن تأثيرها لا يكمل إلا بموسيقية الصوت البشري.. وبالنظرة، وبالإشارة..، حتى تكون لها إمكانية نقل المضمون الفكري والحسي.. وحتى تؤدي غرضها بتكامل وفاعلية وثراء”.. ثار الجدل حول نسب فاجنر إلى والده الشرعي كارل فريدريش، وكان فاجنر نفسه مقتنعا بأنه لودفيج جيير الذي رباه ورعاه وأحبه.. أما والده الشرعي.. فقد مات بالتيفويد بعد ولادته بشهور قليلة.. ورحلت به أمه إلى درسدن لتعيش بجوار جيير الذي تزوجته في فبراير سنة 1815.. ولقد ألقى الفيلسوف نيتشه الضوء على هذا الجانب من تاريخ فاجنر بما لديه من وثائق .. فقد كان نيتشه صديقا مقربا لفاجنر.. بل وتلميذا يقدس فكره وفلسفته وموسيقاه.. ثم انقلب عدوا وناقدا لاذعا له بعد أن نشبت بينهما الخلافات.. ولقد أتاحت هذه العلاقة الفرصة لنيتشه للاطلاع على الخطابات المتبادلة بين أم فاجنر وجيير والوقوف على الكثير من أسرار العائلة. كان جيير ممثلا ومغنيا. وكان يصحب فاجنر الصغير معه في جولاته المسرحية.. وبذلك وجد فاجنر نفسه يحيا في المسرح.. يعيش أحداثه ويستمع ويشاهد ويرقب عن كثب.. حتى أصبح المسرح حلم حياته.. وعندما مات جيير.. كان فاجنر لا يزال في الثامنة من عمره.. فأصبح مصدر إزعاج ومضايقات لأقاربه.. ولم ينجح أي منهم في التحكم أو السيطرة على الصغير.. وقبل أن يبلغ العشرين، كان يتردد على صالات المقامرة..حيث كانت الحياة الخطرة تستهويه.. لقد قامر مرة بمعاش أمه كاملا.. ولحسن الحظ أنه كسب الرهان.. التحق وهو في طفولته بالمعهد الموسيقي بليبزج حيث تلقى تعليمه الموسيقي على أكمل وجه.. وكان المؤلف الألماني العظيم ج.س. باخ قد أرسى تقاليد الدراسة بهذا المعهد قبل ذلك بثمانين عاما.. وعندما بلغ فاجنر السابعة عشرة من عمره.. كان قد بدأ في كتابة الموسيقى.. وبعد ذلك بعامين، كتب سيمفونيته الوحيدة التي لم يكتب لها الخلود.. ولد فاجنر إبان غزو نابليون لمقاطعة سكسونيا في ظروف مقاومة الشعب الألماني للغزو.. وانتقلت به أمه من مدينة إلى أخرى.. فعاش طفولته بين المعارك الوطنية والترحال والهروب.. واختار لنفسه أن يحيا طوال حياته في خطر- الخطر الذي أحبه وبحث عنه – فعاش طوال حياته في ترحال وهروب ومطاردات.. وبين المعارك الوطنية التي اشترك إيجابيا في تحريك ثوارها.. وشحنهم بفكره الجرماني القومي المتعصب. كان يستدين بكثره ويهدد أصدقاءه.. “لا بد لي من المال..وإلا.. سأجن”.. وكان أصدقاؤه يقدمون إليه ما في وسعهم .. ورغم دراسته الموسيقية المتواضعة نسبيا فإنه تمكن من تعليم نفسه بعمق وثراء .. فقد درس البيانو والنظريات.. ودرس مؤلفات أسلافه ورأى في بيتهوفن مثلا أعلى.. وخاصة في سيمفونيته التاسعة.. التي وجدها منطلقا نحو فن جديد.. فن تمتزج فيه الكلمة بالصوت البشري المنفرد والجماعي بالآلات الموسيقية.. وكان وهو في العشرين من عمره يثق في قدراته على إبداع فن يذهل العالم.. وقد عين وهو في هذا السن قائدا للكورال في دار الأوبرا بمدينة فيرتزبورج. وفي هذه المرحلة من حياته كتب أوبرا “الجنيات” Die Feen (1834) وبعدها بعام واحد كتب أوبرا “الحب المحرم” Liebes Verbot .. التي وقع بعدها في حب “مينا بلانر” وتزوجها في 24 نوفمبر سنة 1833. وفي السنوات الأولى من زواجه كتب أربعة أعمال أوبرالية أخرى هي “رينزي” Rienzi (1842) و “الهولاندي الطائر” Der Fliegende Hollander و “تانهويزر” tannhause (1845) و “لوهنجرين” Lohengrin (1850).. ورغم أن هذه الأوبرات الأربعة كانت كافية لجذب أنظار العالم إليه، فإن الجماهير لم تكن قد اعتادت بعد اللغة الموسيقية الجديدة التي كانت حادة غريبة وعنيفة.. ولم يفقد ثقته بنفسه.. وهدأ من روع زوجته التعسة .. “إن عذابك وتعاستك سيؤديان إلى الشهرة والمجد”.. وتفسر شخصية فاجنر على ضوء هذه الكلمات .. فقد كان لا يعبأ بعذاب الآخرين .. حتى زوجته في سبيل شهرته ومجده.. وكان يطلب المساعدات المالية بوجه سافر.. مؤمنا بأن من حقه على الآخرين أن ينال ما يريد من أموالهم.. مقابل ما يمنحه للعالم من ألحان عظيمة. سافر إلى باريس والتقى بأئمة الحركة الموسيقية في ذلك الوقت وعلى رأسهم “فرانزليست” الذي قدم إليه العديد من المساعدات الفنية.. وهناك كان يضطر في أحيان كثيرة إلى كتابة الموسيقى الرخيصة لحانات باريس.. وإلى القيام بنسخ النوتات الموسيقية حتى يكسب قوته الضروري.. واضطر أخيرا إلى العودة لألمانيا بعد أن ضاقت به سبل العيش وأغلقت أمامه أبواب المجد هناك.. أحب ماتيلدا فيزندونك وعلل خيانته بأنها تتفوق على زوجته في قدراتها الفكرية.. غير عابئ بمشاعر “مينا” التي تفانت في خدمته وعانت في سبيل الحياة معه مرارة العيش وذل الإهانة.. وفي عام 1848.. وبعد أن كان قد انتهى من كتابة أوبرا “لوهنجرين” القى بنفسه في أتون الثورة.. وتنقل بين أوكار الثوار كاتبا وناقدا.. ومشتركا في الدعوة لقلب نظام الحكم.. حتى صدر الأمر بالقبض عليه.. فأقام فترة متخفيا عند صديقه “فرانزليست” بمدينة فايمر، Weimar بألمانيا .. ثم اضطر للهرب إلى سويسرا.. لقد تم وصف فاجنر- وفقا لبيانات السلطات عندما طلب بوليس ساكسونيا القبض عليه عام 1849 بأنه “متوسط القامة، بني الشعر.. يلبس نظارة.. له جبهة عريضة، حواجبه بنية اللون وعيناه تخلط بين الزرقة والرمادية.. أنفه وفمه متناسقان وذقنه مستديرة.. وهو في عجلة دائما.. خاصة عندما يتحدث أو يتحرك.. الخ”. عاش فاجنر اثنتي عشرة سنة في المنفى بين البلاد والقلوب، باحثا عن طموحه وملذاته ورغباته.. دون مراعاة للآخرين .. حتى لهؤلاء الذين يمنحونه أموالهم.. وضيافتهم أو صداقتهم.. وكان يقول: “أنا أختلف عن باقي الرجال . والحياة يجب أن تمنحني ما أريد”. كانت موسيقى فاجنر شيئا جديدا في الوجود.. “بيتهوفن قال الكلمة الأخيرة في موسيقى الآلات.. والخطوة التي يجب أن تليها.. هي الموسيقى التي تتكامل وتتوج بالشعر”. “الدراما الموسيقية” هي الهدف الذي عاش فاجنر ليحققه بفنه المتكامل كشاعر فيلسوف وموسيقي في نفس الوقت.. “الكلمات وحدها لا تتمكن من التعبير في أرقى أنواع الشعر.. فالكلمات هي الجذور والموسيقى هي الزهور.. أجمل وأهم من الجذور”. وهب فاجنر حياته للموسيقى المسرحيه.. في إطار ما سماه “الدراما الموسيقية” بدلا من تسمية “الأوبرا” التي شذ عن قواعدها وتقاليدها التي كانت سائدة حتى أيامه.. وقد تمكن في أعماله الأخيرة من أن يخضع الموسيقى لأدق تفاصيل أفكاره المسرحية المنبثقة من النص والمضمون الدرامي، تاركا بذلك أسلوب الأغنية الأوبرالية المسبوقة بالإلقاء المنغم Recitative.. التي كانت تشكل عنصرا هاما في نجاح الأوبرا التقليدية، وجعل من الأغنية جزءا لا يتجزأ عن النص الشعري والحركة المسرحية وموسيقا الآلات والأصوات، ولا يتجزأ عن سائر عناصر الدراما الأخرى من كورال وباليه ومناظر وديكور وإضاءة. وجعل من الصوت البشري آلة موسيقية تتكامل مع آلات الأوركسترا .. وبمعنى أدق .. فقد جعل الأوركسترا والغناء يتحدان كجهاز موسيقي تعبيري واحد.. لا يصاحب أي منهما الآخر بالضرورة ولكن يتحد كل منهما مع الآخر.. فالرئيسي عند فاجنر هو “الدراما الموسيقية” عامة.. وجميع الأجهزة الفنية المشتركة في الأداء تمثل أغنى وأعظم مجموعة موسيقية (آلية وصوتية).. ذلك بعد أن كانت الآلات الموسيقية تعمل في الأوبرا في خدمة الصوت البشري ولمصاحبته.. وهو بذلك قد أسس مدرسة جديدة في “التوزيع الأوركسترالي الغنائي” تبرز فيها إمكانيات التوازن والتناسق والتكامل بين الظلالات الموسيقية والأصوات البشرية.. تلك الأصوات التي اعتبرها فاجنر آلات موسيقية أخرى لها إمكانيات جديدة في التعبير.. وهذا ما جعل المغنين يخشون على أصواتهم من غناء أدوار فاجنر.. بينما يتخصص القليلون منهم في أداء أعماله العظيمة وبأجور خاصة كبيرة.. وهنا تجدر الإشارة بأن أسلوب فاجنر في الكتابة للأصوات البشرية هو أسلوب آلي وليس أسلوبا غنائيا.. فهو منحدر عن مدرسة باخ في معالجته للأصوات.. بينما نجد أغلب مؤلفي الأوبرا الإيطاليين وخاصة “فردي” يكتبون للأصوات بأسلوب غنائي منحدر عن مدرسة “بالسترينا” في الغناء.. استعمل فاجنر “اللحن الدال” Leitmotiv بشكل رئيسي في أعماله ورغم أنه لم يكن مبتكره.. فإنه جعل منه الوسيلة الموسيقية الأولى للربط بين سائر أجزاء دراماته الموسيقية الطويلة.. فقد رمز لكل شخصية بلحن دال أو عدد من الألحان الدالة.. وكانت هذه الألحان تتكرر وتتداخل في حوار وصراع درامي عظيم، فاللحن الدال يدل على الشخصية وتفسر انفعالاتها، لأن فاجنر يطور ألحانه الدالة لتعبر عن حالة من تدل عليه.. وكان تطويره لألحانه الدالة وسيلة يستخدمها كمؤشر نفسي لتطور شخصية البطل الذي يدل عليه اللحن.. فهو يضع اللحن في التوزيع الآلي أو الغنائي وفي كليهما معا، ليتلاءم مع الحدث الدرامي.. واللحن الدال عبارة عن لحن صغير جدا.. له شخصية إيقاعية، مما يجعله قابلا للنماء والمعالجة الموسيقية العلمية. كان فاجنر شاعرا وفيلسوفا.. كتب نصوص أغلب أوبراته.. كما صمم الكثير من مناظرها إلى جانب كتابة موسيقاها.. فكان هو نفسه وحدة درامية موسيقية تاريخية فريدة.. لكنه تفوق على نفسه كمؤلف موسيقي.. وقد حقق فاجنر بهذه “الوحدة الفنية” آمال أسلافه ابتداء من جلوك Jluck أبي الأوبرا الألمانية، الذي سبقه بقرن كامل من الزمان.. وكانت أحلامه أيضا تتركز في فكرة توحيد عناصر الأوبرا وربط أفكارها الموسيقية بالمسرحية.. إن عبقرية فاجنر الموسيقية كانت أوركسترالية.. أما الصوت البشري فقد كان آلة جديدة حية في الأوركسترا.. وقد اتضح ذلك بوضوح في “تريستيان وايزولد” Tristian und Isolde (1865) و “الشعراء المغنين” Die Meister singer (1868) و “بارسيفال” Parsifal (1882). كان فاجنر لا يستطيع الحياة إلا وسط مظاهر البذخ والترف، فكان يستعمل عطرا خاصا يأتيه من باريس.. ولبس الحرير والساتان.. ويغلف الجدران والأثاث بالساتان الأبيض والأصفر والوردي والرمادي. ولم يكن يطيق أن يرى الخطوط الرأسية أو الأفقية حتى في الجدران.. ولذلك فقد حول جدران بيته إلى منحنيات واستدارات.. إن لغز شخصية فاجنر يصعب تفسيره.. لأنه ظهر طوال حياته ممثلا لدور رسمه هو لنفسه.. ولم يلق عليه سوى القليل من الضوء.. وفي 22 مايو سنة 1872، وكان عيد ميلاده التاسع والخمسين .. تم وضع حجر الأساس لمسرح بايرويت في احتفال مهيب.. عزفت فيه سيمفونية بيتهوفن التاسعة.. وألقى فاجنر خطبة تاريخية تحدث فيها عن الوحدة الألمانية، وعن الدور الذي يأمل أن يلعبه مسرح بايرويت لإحياء القومية الألمانية.. وقد كان هذا المسرح هو حلم حياته .. والمعبد الذي تتحد فيه فنون الشعر والموسيقى ويكون أكثر ملاءمة لتقديم درامياته الموسيقية، فهو مهيأ بوسائل تمكن وحدة الدراما الفاجنرية من الحصول على أعلى مستوى من التحقيق.. وافتتح المسرح في 10 أغسطس سنة 186 برباعية الخاتم التي تضم “ذهب الراين” Rhein gold (1869) و “الفالكيري” Die Walkure (1870) و “سيجفريد” Sieg Fried (1876) و “غروب الآلهة” Gotterdammerung (1876). وكانت الأوركسترا – التي تختفي تحت خشبة المسرح – تضم 155 عازفا، تم انتقاؤهم من بين أعظم العازفين الألمان.. وهكذا أصبحت بايرويت – ولا تزال – المركز الذي يتبلور فيه فكر وكفاح فاجنر.. والكعبة التي يحج إليها عشاق فنه الفريد.. ومن إضافاته العديدة.. ابتكاره لنوع من الآلات الموسيقية يحمل اسمه “فاجنرتوبا” Wagner Tuba، وهي آلات نحاسية تجمع بين صفات كل من الكورنو الفرنسي والترمبون.. واستعملها في درامياته الموسيقية.. ومن بعده استعملت بكثرة وخاصة في أوبرات ريتشارد شتراوس.. التقى بكوزيما Cosima ابنة فرانزليست وأحبها .. رغم أنها كانت زوجة لصديقه هانز فون بيلوف Hans von Bulow.. وتزوجها في 25 أغسطس سنة 1870 بعد أن كانا قد فرا سويا بسنوات. وفي أواخر أيامه تحول إلى نباتي.. ودعا إلى أن يكون كل البشر نباتيين.. وقد عاش أيامه الأخيرة منعزلا عن المجتمع، ومات بالسكتة القلبية في مدينة البندقية.. في اليوم الثالث عشر من (فبراير) عام 1883 .. بعد أن عاش حياة شديدة الخصوبة أعطى لها بعمق .. كما انتزع منها كل ما تمكن من الحصول عليه.. “الكلمة ليست سوى وسيلة لنقل الأفكار.. والاتصال بالناس.. إلا أن تأثيرها لا يكمل إلا بموسيقية الصوت البشري.. وبالنظرة.. والإشارة .. حتى تؤدي غرضها بتكامل وفاعلية وثراء”..