في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان سكان مدينة “نيو أورليانز” على نهر المسيسيبي الهادئ يتكوّفنون من خليط من المهاجرين الأسبان والإنجليز والفرنسيين، ويفكوّفنون طبقة الأسياد،
وكان كل منهم يمتلك عددًا وفيرًا من العبيد الذين يسخرونهم في جميع الأعمال، وخاصة الزراعة.
من هذه المدينة خرج نجوم موسيقى الجاز الأمريكي مثل لويس أرمسترونج، وأوليفر، وكثيرون غيرهما أخذوا ينشرون هذا الفن في الولايات المتحدة الأمريكية بأسرها وفي أنحاء العالم.
جدير بالذكر أن جميعهم من السود، أما أسماؤهم الأوروبية فهي أسماء أسيادهم الذين كانوا يمتلكونهم منذ استورد تجار الرقيق أجدادهم من إفريقيا في القرن السابق.
ظهر هذا النوع من الموسيقى نتيجة لظروف تاريخية واجتماعية، أهمها إلغاء نظام الرق والعبودية عام 1863 على يد الرئيس “أبراهام لينكولن” من جهة، ونهاية الحرب الأهلية الأمريكية عام 1865 من جهة أخرى.
أصل الحكاية
وهكذا وجد الزنوج أنفسهم أحرارًا في مدينة “نيو أورليانز” التي تكثر فيها علب الليل وصالات الرقص الأوروبي، مثل: “الفالس” و”البالكا”، وتنتشر في جميع أحيائها، وخاصة في شارع “رامبارت”، هذا بخلاف الفرق النحاسية الصغيرة الكثيرة التي كانت تجوب شوارع المدينة نهارًا، ودار الأوبرا الفرنسية بها.
إلا أن الزنوج جلبوا معهم من إفريقيا – موطنهم الأصلي – تراثهم من إيقاعات وألحان احتفظوا بها وتوارثوها من جيل إلى جيل؛ لأنهم كانوا يرددونها في أثناء العمل في حقول القطن أو في أثناء سمرهم في ميدان “الكونجو” بعد ظهر أيام الأحد، وهو عطلتهم الرسمية الأسبوعية.
وكان أهم ما يلفت نظر الأوروبيين هي تلك الطبول الكبيرة التي تسمى “تام تام” أو “بامبولاسي”.
وكان الأوروبيون يتسلون بالفرجة على عبيدهم في سهرات موسيقية أقرب إلى المزاح، وامتزجت تلك الألحان والإيقاعات الإفريقية الأصل مع ما تعلمه الزنوج من ألحان الكنيسة الكاثوليكية أو البروتستانتية، وأيضًا مع صرخات عذاب العبودية وتعبيرات روحهم المكتئبة المتأثرة بالروح الوثنية، وأيضًا امتزجت بالموسيقى الأوروبية التي كانت منتشرة في كل مكان كما سبق القول.
وكانت تلك هي العناصر المتباينة التي يرجع إليها أصل موسيقى الزنوج في أمريكا، والتفت الزنوج حديثو التحرير حولهم، فوجدوا عددًا كبيرًا من الآلات النحاسية مثل الساكس فون والترمبيت المبعثرة هنا وهناك، تلك التي تركتها فرق الموسيقى العسكرية بعد نهاية الحرب الأهلية، فجمعوها وأخذوا ينفخون فيها، محاولين عزف تلك الألحان المحفوظة أو المارشات العسكرية التي طالما استمعوا إليها أو أية أنغام تخرج منهم تلقائيًا.
وهكذا بالفطرة ابتكروا – وهم لا يدرون – أسس موسيقى الجاز، كما أصبحت الآلات النحاسية هي الآلات الأساسية لعزفها.
المعروف أن العزف على آلات النفخ النحاسية أسهل بكثير من أية آلات أخرى، ويمكن استخراج الألحان البسيطة منها بدون دراسة أو تعليم.
الجاز أبيض وأسود
وفي عام 1895 تكونت في مدينة “نيو أورليانز” أول فرقة تعزف موسيقى الجاز برئاسة حلاق اسمه “بادي بولدن”، الذي كان حلاقًا بالنهار وعازف “كورونيت” بالليل.
أما الموسيقى التي تعزفها هذه الفرقة ليست مدونة، بل تعتمد أساسًا على الارتجال المشترك والانطلاق بالأصوات في كل اتجاه.
ثم أخذت فرق الموسيقى الجاز تنتشر وتجذب إليها جمهورًا متزايدًا من الشباب، ثم استطاعت أن تحتل مكانًا بارزًا في صالات الرقص والحدائق العامة ومناسبات الزواج، وحتى في السير أمام الجنازات.
وحيث إن هذه الفرق كانت كثيرة التنقل من مكان إلى آخر، لم يدخل البيانو في تكوينها إلا في وقت متأخر، حوالي عام 1920.
ومنذ بداية القرن العشرين أخذ الموسيقيون البيض يكوّفنون فرقًا مماثلة متخصصة في عزف موسيقى الجاز قاموا بتدوينها بالنوتة، ولكنهم لم يصيبوا نجاحًا كبيرًا؛ لأن الروح الزنجية كانت تعوزهم، وكذلك لم يستطيعوا تقليد أسلوبهم الذي كان يصدر منهم بالفطرة والسليقة.
ولكن الموسيقيين البيض استطاعوا ابتكار نوع جديد من موسيقى الجاز أطلق عليه اسم “ديكسي لاند” أخذ ينتشر تدريجيًا في أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية بفضل الأفلام السينمائية وشركات الأسطوانات حتى قامت الحرب العالمية الثانية.
ولم يتوقف تطور موسيقى الجاز التي أصبحت موسيقى الرقص بأنواعه، مثل: “الشارلي ستون” و”السوينج”، وانتلقت زعامة موسيقى الجاز من مدينة “نيو أورليانز” إلى مدن أخرى مثل شيكاغو التي تكثر فيها الملاهي الليلية التي كانت تحرص على أن تعمل بها تلك الفرق، ثم انتشرت فرق الجاز في مدن أخرى، مثل: بالتيمور، وواشنطن، ونيويورك، وبوسطن، وفي كل مدينة كانت فرق الجاز تحاول أن تضم إليها عازفيين من مدينة “نيواورليانز” التي كانت تعتبر المعهد الذي تخرَّج منه أشهر العازفين وأمهرهم في الارتجال.
أنواع الجاز
إلى هذا الوقت كانت فرق موسيقى الجاز تتكون من سبعة أو ثمانية عازفين، ثم ظهر في مدينة نيويورك، وفي حي “هارلم” بالذات – والذي يسكنه الزنوج بصفة عامة – “فلتشر هندرسون” و”ديوك ألبينجتون”، وكانا من الموسيقيين الدارسين، وقد قاما بمضاعفة عدد العازفين في فرقتهما، وكتبا النوتات الموسيقية لكل عازف، وقللا من فواصل الارتجال التي كانت من خصائص هذا النوع من الموسيقى، وأطلق على هذا النوع “الجاز الجاد”.
وصادف هذا التجديد نجاحًا كبيرا، وزاد عليه الطلب في فنادق نيويورك الفاخرة العديدة وفي الملاهي الليلية، وحتى في الحفلات التي كانت تقيمها الجامعات والمدارس في مختلف المناسبات.
وشجّع هذا النجاح الفرق الأخرى؛ فسارت على خطاها، كما ظهر في الثلاثينيات عدد كبير من الموسيقيين البيض المهرة من خريجي المعاهد الموسيقية؛ حيث كوَّنوا فرقًا لموسيقى الجاز، نالت شهرة واسعة بفضل تعاقدها مع محطات الراديو العديدة وتسجيل الأسطوانات.
وابتداء من سنة 1945، بدأ الموسيقيون في فرق الجاز ثورة ضد الوظيفة التقليدية للموسيقى التي يعزفونها، وهي تحريك أرجل الراقصين؛ لأنهم كانوا يشعرون أنهم يقدمون للجماهير فنًا يستحق الإصغاء إليه في سكون تام، وبأنه فن جديد يخاطب المشاعر ويرتفع إلى المستويات السيمفونية، ولم يعد يشترك في أدائه عازفون بالسليقة، بل أفضل خريجي المعاهد الموسيقية.
وهكذا أخذت موسيقى الجاز طريقًا جديدًا؛ فاختفى منها الارتجال وقلّ استعمال الإيقاعات الساخنة، وأصبحت المؤلفات الجديدة تميل إلى البطء وإلى التعبير العاطفي في ألحان ذات طابع غنائي مؤثر، وأطلق على هذا النوع من موسيقى الجاز اسم “الجاز البارد”.
وفي هذه الفترة أيضًا ظهرت البوادر الأولى لفرق “السيمفو جاز”، وهي عبارة عن تكوين موسع يشتمل على آلات الأوركسترا السيمفوني الكامل، مضافًا إليه آلات فرق الجاز التقليدية.
وكان أول من أقدم على هذا التطور هو “جيل إيفانز”، وتلاه عام 1955 “جنتر شولر” وغيرهما.
العودة إلى الجذور
ولكن على الرغم من هذا الاتجاه التوسعي في كتابة موسيقي الجاز، فلم تختف أبدًا الفرق الصغيرة التي كانت تسير على روح الجاز الأساسية التي تنبع من الإيقاعات الساخنة السريعة والارتجال أو التعبير الذاتي المنطلق على سجيته دون قيود.
وهكذا ظهر “الروك أند روك” في أوائل الستينيات، وكان “سيسيل تايلور”، وهو عازف بيانو أول من نادى بالعودة بالجاز إلى أصوله القديمة بعد أن كان قد بلغ في سموه أرفع المستويات.
ولا يجب أن نغفل ذكر امتزاج موسيقى الجاز الأمريكي بموسيقى دول أمريكا اللاتينية كالمكسيك والأرجنتين منذ العشرينيات، وما أدخلت عليها تلك البلاد من إيقاعات مبتكرة ورقصات جديدة، مثل: التانجو، والرومبا، والسامبا، والتشاتشا، وغيرها، بالإضافة إلى آلات الإيقاع الشعبية في تلك البلاد مثل القرع والشخاشيخ والنقارات.
وهكذا نرى أن موسيقى الجاز عبر تاريخها لم تنقطع عن التطور والتغيير؛ فترتفع أحيانًا إلى المستويات السيمفونية، وترتد أحيانًا أخرى إلى أصولها البدائية، وأهم ما يلفت النظر أن تلك الموسيقى التي انطلقت من مدينة “نيو أورليانز” انتشرت في جميع أنحاء العالم.
كذلك تطورت مهرجانات الجاز؛ فقد بدأت إقامتها بصفة دورية في الخمسينيات، وكانت في البداية محلية، تتبارى فيها الفرق الأمريكية بتقديم أحدث إنتاجها وأفضل نجومها في الغناء أو العزف.
ثم أخذ نطاق تلك المهرجانات يتسع؛ حتى أصبحت دولية، تشترك فيها فرق الجاز من مختلف أنحاء العالم؛ لتلفت إليها أنظار شركات الأسطوانات، فتتعاقد معها أو تحتكرها بأجور مرتفعة.
ولم تمض سنوات قليلة حتى تكونت هيئة دولية لتنظيم تلك المهرجانات، وأخذ عددها يزداد كل سنة مع مراعاة إقامتها في مختلف عواصم العالم، كما أصبح لها لجان تحكيم دولية تمنح الفرق الفائزة جوائز مالية كبيرة.
بقلم : محسن الصياد