لن يستطيع أي فنان مهما بلغت قدرته في التعبير وتملكه لأدواته الفنية أن يتفوق على الطبيعة في اقل عمل فني وليس هذا الأمر بحاجة لتأكيد .
فقد يكفي التمعن لمدة دقيقة في تراصف حبات الرمل المختلف الألوان و تمازجه مع الصدف البحري والصخور بكافة الألوان والأحجام والاختلاط بأعشاب وحيوانات البحر في أي جزء صغير من قاع البحر ليؤكد أن الطبيعة هي أصل الفن .
والطبيعة ليست فقط ملهمة للإنسان كي يصنع جمالا يحاكي ولو ببساطة جمالها لكنها كانت دائما محرضا لأعمال فنية وصفية ( في وصف الجمال الموجود فيها) ..
ورغم أن طريقة تناول الطبيعة كوصف قد يختلف نسبيا باختلاف الزمان أو المكان أو قد يختلف بنوع العمل الفني ذاته أو قد يختلف بسبب الفنانين أنفسهم إلا أن النتيجة كانت دائما جمالا إضافيا وفنا راقيا .
يقول معظم المشتغلين في الفلسفة أن الطبيعة والفنان يتشابهان من ناحية العطاء فمثلما تعطي الطبيعة جمالا كذلك الفنان ومثلما نتلقى من الطبيعة ما يفرحنا أحيانا ( أصوات العصافير ) و ما يضحكنا وما يبكينا ما يبعث فينا الدهشة أحيانا ( جمال البحر اللانهائي ) كذلك الفنان فهو كثيرا ما يدهشنا ويجعلنا نمتلئ بمشاعر شتى ونحن ننظر أو نتلقى منجزا فنيا ما .
هناك فنانين يستخدمون الطبيعة بشكل غير مباشر لإضفاء الجمال على عملهم الفني ، وهذا نوع من الاستعانة بجمال موجود أصلا على جمال مبتدع مثلما فعل تشايكوفسكي في موسيقاه بحيرة البجع .
وهناك من استخدم الطبيعة بشكل مباشر مثل معظم الشعراء العرب الذين اشتغلوا بالوصف كالبحتري عندما قال في وصف جمال الربيع :
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا __ من الحسن حتى كاد أن يتكلما
أو ابن الرومي حين قال :
تخال طائرها نشوان من طرب __ والغصن من هزه عطفيه نشوانا
أو فرجيل حين جعل من الطبيعة أنثى ينفتح رحمها لدفق رزاز الحياة والجمال من الكائن الإلهي ( الإلياذة ) .
وفي الأمثلة السابقة كلها الطبيعة هي من تقدم الشكل والفنان يضيف إبداعه من خلال تجربته الفنية الخاصة . فيظهر شكل جديد مترف ، والشكل هو الشيء المشترك الوحيد بين جميع أنواع الفن ماعدا الموسيقا .
فعند الرسامين أو النحاتين مثلا نستطيع بسهولة أن ندرك أن هناك تجانسا بين الفنان وعاطفته والشكل الذي يكونه أو يرسمه وهناك اصطلاحات منها رمزية الشكل فالشكل العمودي يدل على تسام روحي والأفقي يدل على الندية والتساوي وقد يدل على الثبات إن كان متوازنا .والشكل العشوائي يدل على الاضطراب والدهشة … وهكذا
وقد تنطبق هذه القاعدة على الموسيقا رغم غياب الشكل ولكن غياب الشكل في النهاية ربما يلغي دور الطبيعة أساسا … مثل معظم الموسيقات المتحررة من الشكل وتركز على الارتجال والإفلات من كل عقال .
وأعتقد جازما أن الفنان ساعة يبدع وان انفلت من الواقع ورمى بكل القواعد والقوانين والمقاييس التي تحكم الجملة الفنية أساسا …فإنه بالنهاية يصل إلى شكل فني له أبعاد أربع … إلا في الموسيقى فقد يستطيع أي فنان وبجنون اللحظة الإبداعية ذاتها فيه أن يظل حرا غير مقيد حتى لو انتهى العمل الفني .
وأعتقد أن الإيقاع وجد ليحد من هذا الانفلات .