ينظر إلى موسيقى الجاز ، على أنها البداية الحقيقية لتأسيس الموسيقي الحقيقي في تأريخ الولايات المتحدة ، إنها الجذور الأفريقية ، والتي تنحدر عن التوليفات الفردية غير المحترفة لبسطاء مزارعي الفترات المظلمة في أفريقيا والجنوب الأمريكي لاحقا ، غير أن التطور السريع في مديات الموسيقى الأمريكية حصرا ،
وحمل التراث الموسيقي على المعالجة ضمن تأريخ الآلة الموسيقية ، هو ما دفع بالزنوج إلى الإسراع في التكتل ضمن بوابات أميركا القارة الدولة ، أو القارة الأم الصناعية لهذا التلاقح القسري .
تعتمد موسيقى الجاز على الانسياب التام والتوافق الحر في عرض وإطالة الجمل الموسيقية اللحنية التي غالبا ما تكرر عبارات مبتكرة للالتفاف حول نمط لحني موحد ، ولموسيقى الجاز تاريخ يبدأ مع شجون إنسان الأمس وتلك القدرة العجيبة في إحالة الألم الإنساني إلى ممرات الآلة المؤدية ، وتؤدى موسيقى الجاز عادة بثلاث آلات كما في نمط الكونشرتو ، غير إن الغالب هو الجاز ( الدرامز أو آلة الطبول المتعددة ) بمعية ( الباص ) وكان الكونتر باص ولا يزال يؤدي النسق الاستدلالي للحن كما في الموسيقى العربية لتذهب آلات النفخ ( ساكسفون ، فلوت ، ترايومف ….) أو الكيتار أو البيانو ( الكيبورد ) لأداء الصولو المنفردة أو المزدوجة معا .
لقد قدمت المطربة فيروز وعبر تاريخ مشرف عددا من الأغاني ، كان يلاحظ سيادة شاعرية الأداء على جمال الصوت فيها. غير أن مجموعة الألحان التي قدمها زياد رحباني الابن – كانت متميزة بإبداعها الشامل ، الشرقي الغربي ، فعند أغنية ( عندي ولع فيك ) ، يلاحظ نمط الجاز في الإيقاع المقترب وبذكاء وتمازج من إيقاعي الرومبــا والجه جه ، مع العدول في الطفرات اللحنية العربية على مقام النهاوند المنفتح ( كما في المقطع – حبيتك مثل ما حدا حب …. ) وهنا يكون الختام مفتوحا على جمل أخرى مشابهة ، لتشدو بهالة لحنية ( بكتب شعر فيك ، بكتب نثر فيك … ) حيث يستمر النقر الاستدلالي مع التحليق لآلات الكمان والختم المدروس .. الذي يجعل الأذن الموسيقية محلقة رغم انتهاء الأغنية .
في لحن آخر يعود زياد رحباني إلى الإبداع في أغنية ( كيفك أنت ) حيث الصراع الخفي في إيقاعين متنافرين تماما ، أولاهما الإيقاع الشرقي في تأدية الكوبليه الأساسي للأغنية ( كيفك أنت .. ملا أنت ) ، وإيقاع السلو روك Slow Rock حيث العمل على سحب زمن الإيقاع الغربي ووضعه في قالب الإيقاع الشرقي ، وهو عمل ذات حرفة وجمالية تجعل من الكلمات حقولا ممتدة في الذاكرة المتلقية ، وكما تبتدئ فيروز كل مقطع ( بتذكر آخر سهرة سهرتـــا عنا ) حيث يبدأ التغير في ( هيدي أمـــي … ) مع توشيح موسيقي أخاذ من آلة الباص كيتار المتخفية خلف الضربات الشرقية …. للإيقاع الراقص والحالم معا ، وهو ما يطلق عليه في الاصطلاح الفني : Slop Hit أي ضربة مفاجئة على غير نمطية الإيقاع المستمر .
وعند الذهاب إلى قمة الشاعرية تنفرد فيروز بأغنية غاية في التماثل اللحني والانقلاب الأدائي وتلك هي أغنية ( زعلي طول أنا وياك …) ــ حيث الابتعاد عن النمطية الأدائية ولحساب جمالية التتويج الصوتي ، حيث الصمت الذي نلمحه ولأول مرة ، وهو يؤدى على الآلة المطلقة الحلم والترجيع كما في بدايات المقاطع الحالمة ( لو جيت نهار عابيتي …….) حيث تستقبل الآلة بترجيعها الشبيه برنين موسيقى الزنوج في حي هارلم – هذا الوجع إلى عودة مفاجئة ( …… ما مرؤوا إلا إيديك …..) إنه السحر في تمازج قالب الجاز اللحني مع مياه الشاعرية الطافحة فيروز الأداء المتميز .
إن تجربة الجاز المتقدمة الوصف ، وقدرة الملحن زياد رحباني على تطويع المقامات العربية كمقام ( الكورد ) و ( والنهاوند ) و ( البيات بغير الربع الشرقي ) لهي تأكيد على ثقافة الملحن في الاستماع ، وعدم اقترابه من التغريب الملاحظ في أغاني الموجات الحديثة ، حيث أكمل زياد الصورة اللحنية الشرقية الخالصة وبإسهام إبداعي ليته يتواصل . مع العلم أن الموسيقار محمد عبد الوهاب الراحل ، كان قد قدم من قبل تجارب في النيل من أنساق الموسيقى الغربية ومنها الجاز لتميزه الإبداعي التوليفي ، فقدم ( بلاش تبوسني في عينيه ) على إيقاع السلو روك وانتقاله إلى الشرقي في ( خلي الوداع من غير قبل ) وكذلك اللحن الراقص على إيقاع الـ ( السوينغ ) ( لي تشغل بالك ، مين يرحم حالك ) والكثير . وفي العراق قدم المطرب العراقي الرائد رضــا علي أغنية ( الردته سويته ، شعندك بعد كول ) وهي من مقام البيات وعلى نمط ألحان الجاز بالاستعانة بإيقاع ( الجه جه ) ، وقدمت المطربة العراقية الرائدة عفيفة إسكندر أغنية ( أنا ساكت وخلي الناس تحجيلك ) على الإيقاع الشرقي موشحة بذات القالب اللحني ، وفي الساحة العربية قدمت سميرة سعيد أغنيتها الناجحة ( أنا أحب الهوا والناس والـ….. ) وهي لحن جاز خالص ، وكانت ناجحة نظرا لقدرتها الصوتية في الإلتفاف والتبادل على إيقاع الروك ( القريب ) من إيقاع ( السوينغ ) . إن المتلقي العربي قد لا يألف هذه الشاعرية في الأداء ، غير أنها من ضرورات التلاقح الحضاري الموسيقى ، لأن الآلة الموسيقية ذات انتماء كوني ، ويتأتى للجميع العزف والأداء عليها ، كما قدم الأميركي ويلسون دافيد ( مقطوعة الجاز الذائعة الصيت : ليلة في تونس ) فكانت اليد الغربية تحاول جاهدة أن ترسم الصحراء العربية في عمل متقن من أعمال موسيقى الجاز الحديثة .
بقلم : عباس الحسيني